فصل: مطلب فِي إبَاحَةِ الْأَكْلِ مِنْ بَيْتِ الْقَرِيبِ وَالصَّدِيقِ مِنْ مَالٍ غَيْرِ مُحْرَزٍ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: غذاء الألباب لشرح منظومة الآداب **


 مطلب فِي بَيَانِ أَطْيَبِ الْمِيَاهِ وَأَعْذَبِهَا وَأَنْفَعِهَا

وَبَيَانِ امْتِحَانِ أَيُّ الْمَاءَيْنِ أَخَفُّ ‏(‏الثَّالِثَةُ‏)‏ أَطْيَبُ الْمِيَاهِ وَأَعْذَبُهَا وَأَنْفَعُهَا كَمَا فِي الْهَدْيِ أَنْ يَكُونَ مُشْتَمِلًا عَلَى عَشَرَةِ أَوْصَافٍ‏:‏ أَنْ يَكُونَ صَافِيًا ‏.‏

وَأَنْ لَا يَكُونَ لَهُ رَائِحَةٌ ‏.‏

وَأَنْ لَا يَكُونَ لَهُ طَعْمٌ وَأَنْ يَكُونَ خَفِيفًا فِي الْوَزْنِ رَقِيقَ الْقَوَامِ ‏.‏

وَامْتِحَانُ ذَلِكَ أَنْ تُبَلَّ قُطْنَتَانِ مُتَسَاوِيَتَانِ فِي الْوَزْنِ بِمَاءَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ ‏,‏ ثُمَّ يُجَفَّفَانِ تَجْفِيفًا بَالِغًا ‏,‏ ثُمَّ يُوزَنَانِ فَأَيُّهُمَا كَانَتْ أَخَفَّ كَانَ مَاؤُهَا كَذَلِكَ ‏.‏

وَأَنْ يَكُونَ طَيِّبَ الْمَجْرَى ‏,‏ وَالْمَسْلَكِ ‏.‏

وَأَنْ يَكُونَ بَعِيدَ الْمَنْبَعِ ‏.‏

وَأَنْ يَكُونَ بَارِزًا لِلشَّمْسِ وَالرِّيحِ ‏,‏ وَأَنْ يَكُونَ سَرِيعَ الْحَرَكَةِ ‏,‏ وَالْجَرْيِ ‏,‏ وَأَنْ يَكُونَ كَثِيرًا فَتَدْفَعُ كَثْرَتُهُ الْفَضَلَاتِ الْمُخَالِطَةَ لَهُ ‏.‏

وَأَنْ يَكُونَ آخِذًا مِنْ الشَّمَالِ إلَى الْجَنُوبِ وَمِنْ الْمَغْرِبِ إلَى الْمَشْرِقِ ‏.‏

وَإِذَا اُعْتُبِرَتْ هَذِهِ الْأَوْصَافُ فَلَا تُوجَدُ فِي غَيْرِ الْأَنْهَارِ الْأَرْبَعَةِ‏:‏ النِّيلُ ‏,‏ وَالْفُرَاتُ وَسَيْحَانُ وَجَيْحَانُ ‏,‏ وَهِيَ مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ ‏.‏

وَأَرْدَأُ الْمَاءِ مَا كَانَ مَجْرَاهُ فِي رَصَاصٍ ‏,‏ أَوْ كَانَتْ بِئْرُهُ مُعَطَّلَةً لَا سِيَّمَا إنْ كَانَتْ تُرْبَتُهَا رَدِيئَةً فَهَذَا الْمَاءُ وَبِيءٌ وَخِيمٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ‏.‏

 مطلب فِي الِانْتِعَالِ حَالَ الْقِيَامِ

‏(‏وَلَا‏)‏ تَكْرَهَنَّ ‏(‏انْتِعَالَ الْفَتَى‏)‏ ‏,‏ وَهُوَ قَائِمٌ ‏(‏فِي‏)‏ الْقَوْلِ ‏(‏الْأَظْهَرِ‏)‏ مِنْ الرِّوَايَتَيْنِ ‏(‏الْمُتَأَكِّدِ‏)‏ الْعَمَلُ بِهِ فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ ‏.‏

وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ يُكْرَهُ ذَلِكَ قَدَّمَهُ ابْنُ تَمِيمٍ ‏.‏

قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رضي الله عنه‏:‏ لَا يَنْتَعِلُ قَائِمًا ‏.‏

وَزَادَ فِي رِوَايَةِ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ ‏,‏ وَالْأَثْرَمِ‏:‏ الْأَحَادِيثُ فِيهِ عَلَى الْكَرَاهَةِ ‏.‏

قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ‏:‏ وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ اعْتَمَدَ عَلَى الْأَحَادِيثِ فِي كَرَاهَةِ ذَلِكَ ‏,‏ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ‏:‏ كَتَبَ إلَيَّ يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الِانْتِعَالِ قَائِمًا قَالَ لَا يَثْبُتُ فِيهِ شَيْءٌ ‏.‏

قَالَ الْقَاضِي وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ ضَعَّفَ الْأَحَادِيثَ فِي النَّهْيِ ‏.‏

انْتَهَى ‏.‏

قُلْت‏:‏ وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَالضِّيَاءُ الْمَقْدِسِيُّ فِي الْمُخْتَارَةِ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ ‏"‏ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَنْتَعِلَ الرَّجُلُ ‏,‏ وَهُوَ قَائِمٌ ‏"‏ ‏.‏

وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ‏:‏ إنَّ مِنْ السُّنَّةِ لِمَنْ أَرَادَ الْأَكْلَ أَنْ يَخْلَعَ نَعْلَيْهِ ‏,‏ وَرَوَى فِيهِ حَدِيثًا ‏.‏

وَلَيْسَ هَذَا مَحَلَّ ذِكْرِ الْكَلَامِ عَلَى النِّعَالِ ‏,‏ وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا لِمُنَاسَبَةِ عَدَمِ كَرَاهَةِ الشُّرْبِ قَائِمًا ‏,‏ وَكَذَا الِانْتِعَالُ قَائِمًا غَيْرُ مَكْرُوهٍ فِي الْأَصَحِّ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى النِّعَالِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ ‏.‏

 مطلب فِي آدَابِ مُؤَاكَلَةِ الْإِخْوَانِ

‏(‏تَتِمَّةٌ‏)‏ فِي ذِكْرِ بَقِيَّةِ أَشْيَاءَ مِنْ آدَابِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالضِّيَافَةِ وَلَوَاحِقِ ذَلِكَ وَفِي ذَلِكَ أَنْوَاعٌ‏:‏ النَّوْعُ الْأَوَّلُ فِي آدَابِ مُؤَاكَلَةِ الْإِخْوَانِ‏:‏ يُسْتَحَبُّ لِصَاحِبِ الطَّعَامِ أَنْ يُبَاسِطَ الْإِخْوَانَ بِالْحَدِيثِ الطَّيِّبِ ‏,‏ وَالْحِكَايَاتِ اللَّائِقَةِ بِالْحَالِ ‏,‏ وَيَأْكُلَ بِالْأَدَبِ مَعَ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا وَبِالْإِيثَارِ مَعَ الْفُقَرَاءِ وَبِالِانْبِسَاطِ مَعَ الْإِخْوَانِ ‏,‏ وَبِالتَّعَلُّمِ مَعَ الْعُلَمَاءِ ‏.‏

قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏:‏ يَأْكُلُ بِالسُّرُورِ مَعَ الْإِخْوَانِ ‏,‏ وَبِالْإِيثَارِ مَعَ الْفُقَرَاءِ ‏,‏ وَبِالْمَرُوءَةِ مَعَ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا ‏.‏

وَيُسَنُّ أَنْ يَغُضَّ طَرْفَهُ عَنْ جَلِيسِهِ وَيُؤْثِرَ عَلَى نَفْسِهِ الْمُحْتَاجَ ‏,‏ وَإِذَا كَانَ عَلَى رَأْسِهِ إنْسَانٌ قَائِمٌ أَمَرَهُ بِالْجُلُوسِ ‏,‏ فَإِنْ أَبَى عَلَيْهِ ‏,‏ أَوْ قَامَ مَمْلُوكُهُ وَخَادِمُهُ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ وَسَقْيِهِ الْمَاءَ أَخَذَ مِنْ أَطَايِبِ الطَّعَامِ فَلَقَمَهُ ‏.‏

وَإِنْ أَكَلَ مَعَ ضَرِيرٍ أَعْلَمَهُ بِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ‏,‏ فَرُبَّمَا فَاتَهُ أَطْيَبُ الطَّعَامِ لِعَمَاهُ ‏.‏

قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا كَمَا فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى وَمِنْ الْأَدَبِ أَنْ لَا يُلْقِمَ أَحَدًا يَأْكُلُ مَعَهُ إلَّا بِإِذْنِ مَالِكِ الطَّعَامِ ‏,‏ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ عَمَلًا بِالْعَادَةِ ‏,‏ وَالْعُرْفِ فِي ذَلِكَ لَكِنَّ الْأَدَبَ ‏,‏ وَالْأَوْلَى الْكَفُّ عَنْ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ إسَاءَةِ الْأَدَبِ عَلَى صَاحِبِهِ ‏,‏ وَالْإِقْدَامِ عَلَيْهِ بِبَعْضِ التَّصَرُّفِ مِنْ غَيْرِ إذْنٍ صَرِيحٍ ‏.‏

وَفِي مَعْنَى ذَلِكَ تَقْدِيمُ بَعْضِ الضِّيفَانِ مَا لَدَيْهِ وَنَقْلُهُ إلَى الْبَعْضِ الْآخَرِ لَكِنْ لَا يَنْبَغِي لِفَاعِلِ ذَلِكَ أَنْ يُسْقِطَ حَقَّ جَلِيسِهِ مِنْ ذَلِكَ ‏,‏ وَالْقَرِينَةُ تَقُومُ مَقَامَ الْإِذْنِ فِي ذَلِكَ ‏.‏

وَذَكَرَ الْإِمَامُ مُوَفَّقُ الدِّينِ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ فِي الْمُغْنِي‏:‏ أَنَّ الضَّيْفَ لَا يَمْلِكُ الصَّدَقَةَ بِمَا أُذِنَ لَهُ فِي أَكْلِهِ ‏.‏

وَقَالَ‏:‏ إنْ حَلَفَ لَا يَهَبُهُ فَأَضَافَهُ لَمْ يَحْنَثْ ‏;‏ لِأَنَّهُ لَمْ يُمَلِّكْهُ شَيْئًا ‏,‏ وَإِنَّمَا أَبَاحَهُ الْأَكْلَ ‏;‏ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ بِغَيْرِهِ ‏,‏ وَذَلِكَ ‏;‏ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ جَوَازِ التَّصَرُّفِ فِي مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ خُولِفَ فِي أَكْلِهِ مِنْهُ لِإِذْنِهِ فِيهِ فَيَبْقَى مَا سِوَاهُ عَلَى الْأَصْلِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْإِذْنِ فِي الْأَدْنَى الْإِذْنُ فِي الْأَعْلَى ‏.‏ وَحَقُّ الْآدَمِيِّ مَبْنِيٌّ عَلَى الشُّحِّ وَالضِّيقِ ‏.‏ وَهَذَا التَّعْلِيلُ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ ‏.‏ لَكِنَّ كَلَامَهُمْ صَرِيحٌ بِالْكَرَاهَةِ فَقَطْ ‏.‏

 مطلب يُكْرَهُ أَنْ يُلْقِمَ الضَّيْفُ مَنْ حَضَرَ مَعَهُ إلَّا بِإِذْنِ رَبِّ الطَّعَامِ

قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ‏:‏ يُكْرَهُ أَنْ يُلْقِمَ مَنْ حَضَرَ مَعَهُ لِأَنَّهُ يَأْكُلُ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِتَمْلِيكٍ ‏.‏

وَوُجِّهَتْ رِوَايَةُ الْجَوَازِ فِي مَسْأَلَةِ غَيْرِ الْمَأْذُونِ لَهُ بِأَنَّهُ مِمَّا جَرَتْ الْعَادَةُ بِالْمُسَامَحَةِ فِيهِ ‏,‏ وَالْإِذْنِ عُرْفًا فَجَازَ كَصَدَقَةِ الْمَرْأَةِ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا ‏.‏

وَهَذَا التَّعْلِيلُ جَارٍ فِي مَسْأَلَةِ الضَّيْفِ فَيُتَوَجَّهُ الْقَوْلُ بِهِ فِيهَا حَيْثُ جَازَ ‏.‏

وَحِينَئِذٍ يَنْبَغِي التَّفْصِيلُ كَمَا فِي الْمَرْأَةِ بِأَنَّهُ إنَّمَا يَجُوزُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ شُحَّ رَبِّ الطَّعَامِ ‏.‏

قَالَ الْيُونِينِيُّ فِي مُخْتَصَرِ الْآدَابِ‏:‏ وَتَلْخِيصُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ الضَّيْفَ لَا يَمْلِكُ مَا لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِفِعْلِهِ وَلَمْ تُخَالِفْهُ قَرِينَةٌ ‏;‏ كَتَلْقِيمِ بَعْضٍ بَعْضًا وَتَقْدِيمِ طَعَامٍ وَإِطْعَامِ سِنَّوْرٍ وَكَلْبٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ ‏,‏ وَإِنْ عَلِمَ رِضَا رَبِّهِ بِذَلِكَ جَازَ وَإِلَّا فَوَجْهَانِ ‏,‏ وَالْأَوْلَى جَوَازُهُ ‏.‏

وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ بَابُ مَنْ نَاوَلَ ‏,‏ أَوْ قَدَّمَ إلَى صَاحِبِهِ عَلَى الْمَائِدَةِ شَيْئًا ‏.‏

قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ‏:‏ لَا بَأْسَ أَنْ يُنَاوِلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَلَا يُنَاوِلُ مِنْ هَذِهِ الْمَائِدَةِ إلَى مَائِدَةٍ أُخْرَى ‏.‏

قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ‏:‏ سَأَلَ سَائِلٌ حَنْبَلِيًّا هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُقَدِّمَ الضُّيُوفُ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ كُنْتُ أَقُولُ لَا يَجُوزُ وَلَا لِسِنَّوْرٍ حَتَّى وَجَدْتُ فِي الْبُخَارِيِّ قَوْلَ أَنَسٍ رضي الله عنه ‏"‏ فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ مِنْ حَوَالَيْ الصَّحْفَةِ ‏.‏

فَجَعَلْتُ أَجْمَعُ الدُّبَّاءَ بَيْنَ يَدَيْهِ ‏"‏ ‏.‏

قُلْت‏:‏ وَالْخَبَرُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ خَيَّاطًا دَعَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم الْحَدِيثَ وَلِرَبِّ الطَّعَامِ ‏,‏ أَوْ بَعْضِ أَهْلِهِ أَنْ يَخُصَّ بَعْضَ الضِّيفَانِ بِشَيْءٍ طَيِّبٍ إذَا لَمْ يَتَأَذَّ غَيْرُهُ ‏,‏ وَإِنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَخْصُوصِ ‏,‏ أَوْ يُسْتَحَبُّ لَهُ تَنَاوُلُهُ ‏,‏ وَأَنَّهُ لَا يُفْضِلُ مِنْهُ شَيْئًا بِحَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ الْحَالُ مِنْ ذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ لِلضَّيْفِ أَنْ يُفْضِلَ شَيْئًا لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ مِمَّنْ يُتَبَرَّكُ بِفَضْلَتِهِ ‏,‏ أَوْ كَانَ ثَمَّ حَاجَةٌ ‏.‏

قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى‏:‏ وَتَسَاوِي الْقَوْمِ فِيمَا حَضَرَ أَوْلَى ‏,‏ بَلْ قَدْ يُتَوَجَّهُ لَوْ بَادَرَ بَعْضُهُمْ إلَى أَكْلِ مَا حَضَرَ مُخْتَصًّا بِهِ كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ ‏.‏

قُلْت‏:‏ وَكَذَا لَا يَجُوزُ لِبَقِيَّتِهِمْ تَنَاوُلُ مَا عَلِمَ اخْتِصَاصَهُ بِمُعَيَّنٍ كَمَا هِيَ عَادَةُ النَّاسِ مِنْ نَحْوِ تَرْبِيَةِ لَحْمَةٍ كَبِيرَةٍ تُجْعَلُ عَلَى ذُرْوَةِ الطَّعَامِ ‏.‏

‏,‏ فَإِنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهَا لِلرَّئِيسِ فَلَا يَحِلُّ لِغَيْرِهِ فِيمَا يَظْهَرُ تَنَاوُلُهَا عَمَلًا بِالْعُرْفِ ‏,‏ وَالْقَرِينَةِ الْحَالِيَّةِ ‏.‏

وَالْمُسْتَحَبُّ تَقْدِيمُ الطَّعَامِ إلَى الْإِخْوَانِ لَا أَنَّهُ يُوضَعُ وَيُدْعَوْنَ إلَيْهِ كَمَا يَفْعَلُهُ النَّاسُ الْآنَ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ سِيَّمَا الشَّامُ حَرَسَهَا اللَّهُ تَعَالَى ‏.‏

وَيُقَدِّمُ مَا حَضَرَ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ وَلَا يَسْتَأْذِنُهُمْ فِي التَّقْدِيمِ ‏.‏

وَمِنْ التَّكَلُّفِ أَنْ يُقَدِّمَ جَمِيعَ مَا عِنْدَهُ ‏.‏

وَلَا يَقْتَرِحُ الزَّائِرُ طَعَامًا يُعَيِّنُهُ ‏,‏ وَإِنْ خُيِّرَ بَيْنَ طَعَامَيْنِ يَخْتَارُ الْأَيْسَرَ مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ صَاحِبَهُ يُسَرُّ بِمَا اقْتَرَحَهُ ‏.‏

 مطلب فِي آدَابِ الضِّيَافَةِ

وَأَنَّ أَوَّلَ مَنْ ضَيَّفَ الضِّيفَانَ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ عليه الصلاة والسلام النَّوْعُ الثَّانِي فِي آدَابِ الضِّيَافَةِ‏:‏ اعْلَمْ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ ضَيَّفَ الضِّيفَانَ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ عليه الصلاة والسلام ‏,‏ وَهُوَ الْأَبُ الثَّالِثُ ‏,‏ وَعَامُودُ الْعَالَمِ ‏,‏ وَأَبُو الْآبَاءِ ‏,‏ وَإِمَامُ الْحُنَفَاءِ الَّذِي اتَّخَذَهُ اللَّهُ خَلِيلًا ‏,‏ وَجَعَلَ فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ ‏,‏ وَالْكِتَابَ ‏,‏ وَهُوَ شَيْخُ الْأَنْبِيَاءِ كَمَا سَمَّاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ ‏.‏

فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا دَخَلَ الْكَعْبَةَ وَجَدَ الْمُشْرِكِينَ قَدْ صَوَّرُوا فِيهَا صُورَتَهُ وَصُورَةَ إسْمَاعِيلَ ابْنِهِ ‏,‏ وَهُمَا يَسْتَقْسِمَانِ بِالْأَزْلَامِ ‏.‏

فَقَالَ‏:‏ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ شَيْخَنَا لَمْ يَكُنْ يَسْتَقْسِمُ بِالْأَزْلَامِ ‏.‏

فَهُوَ صلى الله عليه وسلم أَوَّلُ مَنْ ضَيَّفَ الضَّيْفَ ‏,‏ وَأَوَّلُ مَنْ سُمِّيَ أَبَا الضِّيفَانِ ‏.‏

قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ‏:‏ كَانَ إبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ عليه السلام إذَا أَرَادَ الْأَكْلَ خَرَجَ مِيلًا ‏,‏ أَوْ مِيلَيْنِ يَلْتَمِسُ مَنْ يَأْكُلُ مَعَهُ فَبِصِدْقِ نِيَّتِهِ دَامَتْ ضِيَافَتُهُ فِي مَشْهَدِهِ إلَى يَوْمِنَا هَذَا ‏,‏ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ بَنَى دَارَ الضِّيَافَةِ ‏,‏ وَجَعَلَ لَهَا بَابَيْنِ كَمَا أَخْرَجَهُ الْعَسْكَرِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ‏:‏ إنَّ اللَّهَ وَسَّعَ عَلَى خَلِيلِهِ فِي الْمَالِ ‏,‏ وَالْخَدَمِ فَاتَّخَذَ بَيْتًا لِلضِّيَافَةِ لَهُ بَابَانِ ‏;‏ يَدْخُلُ الْغَرِيبُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَيَخْرُجُ مِنْ الْآخَرِ وَجَعَلَ فِي ذَلِكَ الْبَيْتِ كِسْوَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ ‏,‏ وَمَائِدَةً مَنْصُوبَةً عَلَيْهَا طَعَامٌ فَيَأْكُلُ الضَّيْفُ وَيَلْبَسُ إنْ كَانَ عُرْيَانًا ‏,‏ وَيُجَدِّدُ إبْرَاهِيمُ عليه السلام ‏.‏

وَفْد أَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ فِي إكْرَامِ ضَيْفِهِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ حَيْثُ يَقُولُ سُبْحَانَهُ‏:‏ ‏{‏هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُون‏}‏ َفَفِي هَذَا مِنْ الثَّنَاءِ عَلَى سَيِّدِنَا إبْرَاهِيمَ وُجُوهٌ مُتَعَدِّدَةٌ‏:‏ أَحَدُهَا‏:‏ وَصْفُ ضَيْفِهِ بِأَنَّهُمْ مُكْرَمُونَ ‏,‏ وَهَذَا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُ إكْرَامُ إبْرَاهِيمَ لَهُمْ ‏,‏ وَالثَّانِي‏:‏ أَنَّهُمْ الْمُكْرَمُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ ‏.‏

الثَّانِي‏:‏ قوله تعالى ‏{‏إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ‏}‏ فَلَمْ يَذْكُرْ اسْتِئْذَانَهُمْ ‏;‏ لِأَنَّهُ قَدْ عُرِفَ بِإِكْرَامِ الضِّيفَانِ وَاعْتَادَ قِرَاهُمْ فَبَقِيَ مَنْزِلُ ضَيْفِهِ مَطْرُوقًا لِمَنْ وَرَدَهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى اسْتِئْذَانٍ ‏,‏ بَلْ اسْتِئْذَانُ الدَّاخِلِ دُخُولُهُ ‏.‏

وَهَذَا غَايَةُ مَا يَكُونُ مِنْ الْكَرَمِ ‏.‏

الثَّالِثُ‏:‏ قَوْلُهُ لَهُمْ ‏(‏سَلَامٌ‏)‏ بِالرَّفْعِ وَهُمْ سَلَّمُوا عَلَيْهِ بِالنَّصْبِ ‏.‏

وَالسَّلَامُ بِالرَّفْعِ أَكْمَلُ ‏;‏ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الثُّبُوتِ وَالدَّوَامِ ‏,‏ وَالْمَنْصُوبُ يَدُلُّ عَلَى الْفِعْلِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْحُدُوثِ وَالتَّجَدُّدِ ‏,‏ فَقَدْ حَيَّاهُمْ بِتَحِيَّةٍ أَحْسَنَ مِنْ تَحِيَّتِهِمْ ‏,‏ فَإِنَّ قَوْلَهُمْ سَلَامًا يَدُلُّ عَلَى سَلَّمْنَا سَلَامًا ‏.‏

وَقَوْلَهُ سَلَامٌ أَيْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ‏.‏

الرَّابِعُ‏:‏ أَنَّهُ حَذَفَ الْمُبْتَدَأَ مِنْ قَوْلِهِ ‏{‏قَوْمٌ مُّنكَرُونَ‏}‏ فَإِنَّهُ لَمَّا أَنْكَرَهُمْ وَلَمْ يَعْرِفْهُمْ احْتَشَمَ مِنْ مُوَاجَهَتِهِمْ بِلَفْظٍ يُنَفِّرَ الضَّيْفَ لَوْ قَالَ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ‏.‏

الْخَامِسُ‏:‏ بِنَاءُ اسْمِ الْمَفْعُولِ لِلْمَجْهُولِ وَلَمْ يَقُلْ إنِّي أُنْكِرُكُمْ‏:‏ ‏,‏ وَهُوَ أَحْسَنُ فِي هَذَا الْمَقَامِ وَأَبْعَدُ مِنْ التَّنْفِيرِ ‏,‏ وَالْمُوَاجَهَةِ بِالْخُشُونَةِ ‏.‏

السَّادِسُ‏:‏ أَنَّهُ عليه السلام رَاغَ إلَى أَهْلِهِ لِيَجِيئَهُمْ بِنُزُلِهِمْ ‏.‏

وَالرَّوَغَانُ هُوَ الذَّهَابُ فِي اخْتِفَاءٍ بِحَيْثُ لَا يَكَادُ يَشْعُرُ بِهِ الضَّيْفُ فَيَشُقُّ عَلَيْهِ وَيَسْتَحْيِ بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يَشْعُرْ بِهِ إلَّا وَقَدْ جَاءَهُ بِالطَّعَامِ ‏.‏

السَّابِعُ‏:‏ أَنَّهُ ذَهَبَ إلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِالضِّيَافَةِ فَدَلَّ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مُعَدًّا عِنْدَهُمْ مُهَيًَّا لِلضِّيَافَةِ ‏,‏ وَلَمْ يَحْتَجْ أَنْ يَذْهَبَ إلَى غَيْرِهِمْ مِنْ جِيرَانِهِ أَوْ غَيْرِهِمْ فَيَشْتَرِيَهُ ‏,‏ أَوْ يَسْتَقْرِضَهُ ‏.‏

الثَّامِنُ‏:‏ قَوْلُهُ ‏{‏فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ‏}‏ دَلَّ عَلَى خِدْمَتِهِ لِلضَّيْفِ بِنَفْسِهِ ‏,‏ وَلَمْ يَقُلْ فَأَمَرَ لَهُمْ ‏,‏ بَلْ هُوَ الَّذِي ذَهَبَ وَجَاءَ بِهِ بِنَفْسِهِ وَلَمْ يَبْعَثْهُ مَعَ خَادِمِهِ ‏.‏

وَهَذَا أَبْلَغُ فِي إكْرَامِ الضَّيْفِ ‏.‏

التَّاسِعُ‏:‏ أَنَّهُ جَاءَ بِعِجْلٍ كَامِلٍ وَلَمْ يَأْتِ بِبَعْضٍ مِنْهُ ‏.‏

وَهَذَا مِنْ تَمَامِ كَرَمِهِ صلى الله عليه وسلم ‏.‏

الْعَاشِرُ‏:‏ وَصْفُ الْعِجْلِ بِكَوْنِهِ سَمِينًا لَا هَزِيلًا ‏,‏ وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَفْخَرِ أَمْوَالِهِمْ وَمِثْلُهُ يُتَّخَذُ لِلِاقْتِنَاءِ وَالتَّرْبِيَةِ فَآثَرَ بِهِ ضِيفَانَهُ ‏.‏

الْحَادِيَ عَشَرَ‏:‏ أَنَّهُ قَرَّبَهُ إلَيْهِمْ وَلَمْ يُقَرِّبْهُمْ إلَيْهِ ‏,‏ وَهَذَا أَبْلَغُ فِي الْكَرَامَةِ أَنْ يَجْلِسَ الضَّيْفُ ‏,‏ ثُمَّ تُقَرِّبَ الطَّعَامَ إلَيْهِ وَتَحْمِلَهُ إلَى حَضْرَتِهِ وَلَا تَضَعَ الطَّعَامَ فِي نَاحِيَةٍ ‏,‏ ثُمَّ تَأْمُرَ ضَيْفَك بِأَنْ يَتَقَرَّبَ إلَيْهِ ‏.‏

الثَّانِيَ عَشَرَ‏:‏ قَوْلُهُ ‏{‏أَلَا تَأْكُلُون‏}‏ وَهَذَا عَرْضٌ وَتَلَطُّفٌ فِي الْقَوْلِ ‏,‏ وَهُوَ أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ كُلُوا وَمُدُّوا أَيْدِيَكُمْ ‏,‏ وَنَحْوِهِمَا ‏,‏ وَهَذَا مِمَّا يَعْلَمُ النَّاسُ بِعُقُولِهِمْ حُسْنَهُ وَلُطْفَهُ ‏;‏ وَلِهَذَا يَقُولُونَ‏:‏ بِسْمِ اللَّهِ ‏,‏ أَوْ أَلَا تَتَصَدَّقُوا ‏,‏ أَوْ أَلَا تُجْبِرُوا ‏,‏ وَمَا أَلْطَفَ مَا اعْتَادَهُ أَهْلُ بِلَادِنَا عَمَّرَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِالْإِسْلَامِ وَالتَّقْوَى مِنْ قَوْلِهِمْ لِلضِّيفَانِ إذَا قَدَّمُوا إلَيْهِمْ الطَّعَامَ‏:‏ تَفَضَّلُوا أَيْ عَلَيْنَا بِأَكْلِ طَعَامِنَا ‏,‏ وَهَذَا فِي غَايَةِ اللُّطْفِ ‏,‏ وَالْحُسْنِ ‏.‏

قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِهِ جَلَاءِ الْأَفْهَامِ فِي فَضْلِ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَى خَيْرِ الْأَنَامِ بَعْدَ ذِكْرِ مَا ذَكَرْنَاهُ‏:‏ فَقَدْ جَمَعَتْ هَذِهِ الْآيَةُ آدَابَ الضِّيَافَةِ الَّتِي هِيَ أَشْرَفُ الْآدَابِ ‏,‏ وَمَا عَدَاهَا مِنْ التَّكَلُّفَاتِ الَّتِي هِيَ تَخَلُّفٌ وَتَكَلُّفٌ إنَّمَا هِيَ مِنْ أَوْضَاعِ النَّاسِ وَعَوَائِدِهِمْ ‏,‏ وَكَفَى بِهَذِهِ الْآدَابِ شَرَفًا وَفَخْرًا ‏,‏ فَصَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا ‏,‏ وَعَلَى إبْرَاهِيمَ ‏,‏ وَعَلَى آلِهِمَا ‏,‏ وَعَلَى سَائِرِ النَّبِيِّينَ ‏.‏

وَقَالَ الْمَدَائِنِيُّ‏:‏ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقِرَى إبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ عليه السلام ‏.‏

وَأَوَّلُ مَنْ هَشَّمَ الثَّرِيدَ هَاشِمٌ ‏.‏

وَأَوَّلُ مَنْ فَطَرَ جِيرَانُهُ عَلَى طَعَامِهِ فِي الْإِسْلَامِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما ‏,‏ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ وَضَعَ مَوَائِدَهُ عَلَى الطَّرِيقِ ‏,‏ وَكَانَ إذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ طَعَامٌ لَا يُعَاوَدُ مِنْهُ شَيْءٌ ‏,‏ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يَأْكُلُهُ تَرَكَهُ عَلَى الطَّرِيقِ ‏.‏

وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ‏:‏ مِنْ آدَابِ الْمُضِيفِ أَنْ يَخْدُمَ أَضْيَافَهُ وَيُظْهِرَ لَهُمْ الْغِنَى ‏,‏ وَالْبَسْطَ بِوَجْهِهِ ‏,‏ فَقَدْ قِيلَ‏:‏ الْبَشَاشَةُ خَيْرٌ مِنْ الْقِرَى ‏.‏

فَكَيْفَ بِمَنْ يَأْتِي بِهِ ‏,‏ وَهُوَ ضَاحِكٌ ‏.‏

وَرَحِمَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ ضَمَّنَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ إذَا الْمَرْءُ وَافَى مَنْزِلًا مِنْكَ طَالِبًا قِرَاكَ وَأَرْمَتْهُ إلَيْكَ الْمَسَالِكُ فَكُنْ بَاسِمًا فِي وَجْهِهِ مُتَهَلِّلًا وَقُلْ مَرْحَبًا أَهْلًا وَيَوْمٌ مُبَارَكُ وَقَدِّمْ لَهُ مَا تَسْتَطِيعُ مِنْ الْقِرَى عُجُولًا وَلَا تَبْخَلْ بِمَا هُوَ هَالِكُ فَقَدْ قِيلَ بَيْتًا سَالِفًا مُتَقَدِّمًا تَدَاوَلَهُ زَيْدٌ وَعَمْرٌو وَمَالِكُ بَشَاشَةُ وَجْهِ الْمَرْءِ خَيْرٌ مِنْ الْقِرَى فَكَيْفَ بِمَنْ يَأْتِي بِهِ وَهُوَ ضَاحِكُ ‏,‏ وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ‏:‏ مِنْ تَمَامِ الْمَرُوءَةِ خِدْمَةُ الرَّجُلِ ضَيْفَهُ كَمَا خَدَمَهُمْ أَبُونَا إبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ بِنَفْسِهِ وَأَهْلِهِ ‏.‏

 مطلب فِي الْأَكْلِ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ خَصْلَةً

النَّوْعُ الثَّالِثُ‏:‏ حَكَى بَعْضُ الْأَصْحَابِ أَنَّ فِي الْأَكْلِ ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ خَصْلَةً أَرْبَعٌ فَرِيضَةٌ‏:‏ أَكْلُ الْحَلَالِ ‏,‏ وَالرِّضَا بِمَا قَسَمَ اللَّهُ تَعَالَى ‏,‏ وَالتَّسْمِيَةُ عَلَى الطَّعَامِ ‏,‏ وَالشُّكْرُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ ‏.‏

وَأَرْبَعٌ سُنَنٌ‏:‏ أَنْ يَأْكُلَ بِيَمِينِهِ ‏,‏ وَمِمَّا يَلِيهِ ‏,‏ وَيَغُضَّ طَرْفَهُ عَنْ جَلِيسِهِ ‏,‏ وَيُؤْثِرَ عَلَى نَفْسِهِ الْمُحْتَاجَ ‏.‏

وَعِشْرُونَ أَدَبًا ‏,‏ وَهِيَ أَنْ لَا يَأْكُلَ مُتَّكِئًا وَلَا مُنْبَطِحًا ‏,‏ وَلَا مِنْ وَسَطِ الصَّحْفَةِ ‏,‏ وَيَأْكُلَ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ ‏,‏ وَيَلْعَقَ أَصَابِعَهُ إذَا فَرَغَ ‏,‏ وَيَمْسَحَ الصَّحْفَةَ ‏,‏ وَيُصَغِّرَ اللُّقَمَ ‏,‏ وَيُجِيدَ الْمَضْغَ ‏,‏ وَيُطِيلَ الْبَلْعَ ‏,‏ وَلَا يَأْكُلَ إلَّا عِنْدَ حُضُورِ صَاحِبِ الطَّعَامِ ‏,‏ وَلَا يَأْكُلَ إلَّا مُطْمَئِنًّا وَيَأْكُلَ مَا يَنْثُرُ وَيَلْفِظَ مَا بَيْنَ أَسْنَانِهِ فَيُلْقِيَهُ ‏,‏ وَلَا يَنْفُخَ الطَّعَامَ ‏,‏ بَلْ يَدَعَهُ حَتَّى يَبْرُدَ وَلَا يَتَنَفَّسَ فِيهِ ‏,‏ وَيَجْلِسَ مُفْتَرِشًا ‏.‏

وَإِنْ تَرَبَّعَ فَلَا بَأْسَ ‏,‏ وَيُوَسِّعَ لِجَلِيسِهِ ‏.‏

وَلَا يُلْقِمَ أَحَدًا مَعَهُ إلَّا بِإِذْنِ صَاحِبِ الطَّعَامِ ‏,‏ وَيَغْسِلَ يَدَهُ إذَا أَكَلَ ‏,‏ وَيَأْكُلَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ حَسْبُ ابْنِ آدَمَ لُقَيْمَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ ‏,‏ فَإِنْ غَلَبَتْ الْآدَمِيَّ نَفْسُهُ فَثُلُثٌ لِلطَّعَامِ ‏,‏ وَثُلُثٌ لِلشَّرَابِ وَثُلُثٌ لِلنَّفَسِ ‏"‏ ذَكَرَهُ السَّامِرِيُّ ‏.‏

‏,‏ وَقَدْ تَقَدَّمَ كُلُّهُ أَوْ قَلِيلٌ مِنْهُ ‏.‏

وَتَقَدَّمَ أَنَّ التَّسْمِيَةَ وَالشُّكْرَ سُنَّةٌ لَا فَرِيضَةٌ ‏.‏

نَعَمْ شُكْرُ الْمُنْعِمِ وَاجِبٌ ‏.‏

وَأَمَّا الْمَسْنُونُ فَالْحَمْدُ وَالثَّنَاءُ فِي أَوَاخِرِ الطَّعَامِ ‏.‏

وَاَللَّهُ وَلِيُّ الْإِنْعَامِ ‏.‏

‏.‏

 مطلب فِي إبَاحَةِ الْأَكْلِ مِنْ بَيْتِ الْقَرِيبِ وَالصَّدِيقِ مِنْ مَالٍ غَيْرِ مُحْرَزٍ

الرَّابِعُ‏:‏ قَالَ الْحَجَّاوِيُّ فِي شَرْحِ هَذِهِ الْمَنْظُومَةِ‏:‏ يُبَاحُ الْأَكْلُ مِنْ بَيْتِ الْقَرِيبِ وَالصَّدِيقِ مِنْ مَالٍ غَيْرِ مُحْرَزٍ إذَا عَلِمَ أَوْ ظَنَّ رِضَا صَاحِبِهِ بِذَلِكَ نَظَرًا إلَى الْعَادَةِ ‏,‏ وَمَا يُذْكَرُ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه مِنْ الِاسْتِئْذَانِ فَمَحْمُولٌ عَلَى الشَّكِّ فِي رِضَا صَاحِبِهِ أَوْ عَلَى الْوَرَعِ ‏.‏

قَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ‏:‏ إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَبَاحَ الْأَكْلَ مِنْ بُيُوتِ الْقَرَابَاتِ الْمَذْكُورِينَ لِجَرَيَانِ الْعَادَةِ بِبَذْلِ طَعَامِهِمْ ‏.‏

فَإِنْ كَانَ الطَّعَامُ وَرَاءَ حِرْزٍ لَمْ يَجُزْ هَتْكُ الْحِرْزِ ‏.‏

وَمِثْلُهُ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ‏:‏ وَكَانَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ يَرَيَانِ الْأَكْلَ مِنْ طَعَامِ الصَّدِيقِ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ جَائِزًا ‏.‏

قُلْت‏:‏ وَالْمَذْهَبُ خِلَافُهُ كَمَا جَزَمَ بِهِ فِي الْإِقْنَاعِ ‏,‏ وَالْمُنْتَهَى ‏,‏ وَالْغَايَةِ ‏.‏

وَعِبَارَتُهُمْ‏:‏ وَلَا يَجُوزُ الْأَكْلُ بِغَيْرِ إذْنٍ صَرِيحٍ ‏,‏ أَوْ قَرِينَةٍ ‏,‏ وَلَوْ مِنْ بَيْتِ قَرِيبِهِ ‏,‏ أَوْ صَدِيقِهِ ‏,‏ وَلَوْ لَمْ يُحْرِزْهُ عَنْهُ ‏.‏

وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما مَرْفُوعًا ‏"‏ مَنْ دَخَلَ عَلَى غَيْرِ دَعْوَةٍ دَخَلَ سَارِقًا وَخَرَجَ مُغِيرًا ‏"‏ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ ‏,‏ وَلِأَنَّهُ مَالُ غَيْرِهِ فَلَا يُبَاحُ أَكْلُهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ ‏.‏

قَالَ فِي الْفُرُوعِ‏:‏ وَظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ يَجُورُ ‏.‏

وَاخْتَارَهُ شَيْخُنَا قَالَ‏:‏ وَهُوَ أَظْهَرُ ‏.‏

وَجَزَمَ بِهِ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ ‏.‏

وَابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُصُولِ فِي آخِرِ الْغَصْبِ فِيمَنْ كَتَبَ مِنْ مِحْبَرَةِ غَيْرِهِ يَجُوزُ فِي حَقِّ مَنْ يَنْبَسِطُ إلَيْهِ ‏.‏

وَالدُّعَاءُ إلَى الْوَلِيمَةِ ‏,‏ أَوْ تَقْدِيمُ الطَّعَامِ إذْنٌ فِي الْأَكْلِ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ‏"‏ إذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إلَى طَعَامٍ فَجَاءَ مَعَ الرَّسُولِ فَذَلِكَ إذْنٌ ‏"‏ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ ‏.‏

وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِيمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ‏:‏ إذَا دُعِيتَ فَقَدْ أُذِنَ لَك ‏.‏

وَأَمَّا الدُّعَاءُ فَلَيْسَ إذْنًا فِي الدُّخُولِ فِي ظَاهِرِ كَلَامِهِمْ ‏.‏

جَزَمَ بِهِ فِي الْإِقْنَاعِ ‏,‏ وَالْمُنْتَهَى خِلَافًا لِلْمُغْنِي ‏.‏

وَنُصُوصُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ صَرِيحَةٌ فِي اعْتِبَارِ الْإِذْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ‏.‏